الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان الورع كف اليد ظاهرًا عن الشيء الضار، وكانت الجوارح لا تنقاد إلا عن تأثر من النفس، لم يصح الورع ظاهرًا إلا أن يقع في النفس روعة باطنه من تناول ذلك الشيء؛ ولما كانت النفس لا تتأثر إلا عن تبصر القلب في الضار كما لا ينكف اليد إلا عند تقذر النفس لما تدرك العين قذره حتى أن النفس الرضية تأنف من المحرمات كما يأنف المستنطف من المستقذرات، فأكلة الحرام هم دود جيفة الدنيا يستقذرهم أهل البصائر كما يستقذرون هم دود جيف المزابل.ولما كان الحرام ما يضر العبد في نفسه كالميتة، تيسر على المستبصر كف يده عنها لما يدري من مضرتها بجسمه، وكذلك الدم المسفوح لأنه ميتة بانفصاله عن الحي ومفارقته لروح الحياة التي تخالطه في العروق، قلت: وسيأتي قريبًا تعليله في التوراة بما يقتضي أنه أكثر فعلًا في النفس وتطبيعًا لها بخلق ما هو دمه من اللحم- والله الموفق؛ وكذلك ما يضر بنفسه كلحم الخنزير لأنه رجس، والرجس هو خبائث الأخلاق التي هي عند العقلاء أقبح من خبائث الأبدان، وذلك لأن من اعتذى جسمه بلحم حيوان اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الحيوان وبخلق من أخلاقه، وفي نفس الخنزير مجامع رذائل الأخلاق من الإباء والحران والمكر والإقدام على ما يعانيه فيه الهلاك ومتابعة الفساد، والانكباب على ما تقبل عليه في أدنى الأشياء على ما أظهرت في خلقته آياته فإنه ليس له استشراف كذوات الأعناق، وكذلك ما يضر بهما وبالعقل كالخمر في نزفها للعقل وتصديعها للرأس وإيقاعها العداوة والبغضاء في خلق النفس، ولذلك هي جماع الإثم، فالمتبصر في المحرمات يأنف منها لما يدري من مضرتها وأذاها في الوقت الحاضر وفي معيبها في يوم الدنيا إلى ما أخبر به من سوء عقباها في يوم الدين، ومن شرب الخمر ومات ولم يتب منها كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، ولو هدد شاربها في الدنيا من له أمر بأن يسقيه من بوله ورجيعه لوجد من الروع ما تحمله على الورع عنها، وإذا استبصر ذو دراية فيما يضره في ذاته فأنف منه رعاية نفسه لحق له بذلك التزام رعايتها عما يتطرق له منه درك من جهة غيره فيتورع من أكل أموال الناس بالباطل لما يدري من المؤاخذة عليها في العاجل وما أخبر به من المعاقبة عليها في الآجل، ولها في ذاته مضرة في الوقت بتعرفها من موارد القرآن بنور الإيمان {الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا} [النساء: 10] وإن لم يحس بها، وليس تأويله الوعد بالنار لأن ذلك إنباء عند قوله تعالى: {وسيصلون سعيرًا} [النساء: 10]، وكذلك إذا أنف مما يضره في نفسه وخاف مما يتطرق إليه ضره من غيره، أعظم أن يقرب حمى ما يتطرق إليه السطوة من ربه لأجله، وذلك فيما حرم عليه حماية لعظيم ملكه وعدم التفاوت في أمر رحمانيته في محرم الربا، ولما فيه أيضًا من مضرة وقته الحاضر التي يقيدها بالإيمان من تعريف ربه، فإنه تعالى كما عرف أن أكل مال الغير بالباطل نار في البطن، عرف أن أكل مال الربا جنون في العقل وخبال في النفس {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275] وأعظم من ذلك ما حرمه الله لعرائه عن اسمه عند إزهاق روحه، لأنه مأخوذ عن غير الله، وما أخذ عن غير الله كان أكله فسقًا وكفرًا لأنه تناول الروح من يد من لا يملكها، ولذلك فرضت التسمية في التذكية ونفلت فيما سوى ذلك، فلا تصح قراءة هذا الحرف إلا بتبصرة القلب فيه وروعة النفس منه وورع اليد عنه، وإلا فهو من الذين يقرؤون حروفه ويضيعون حدوده، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كثر هؤلاء من القراء، لا كثّرهم الله!» ومن لم تصح له قراءة هذا الحرف لم تصح له قراءة حرف دعاؤه: «الرجل يطلب الله مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، يقول: يا رب! يا رب! فأنى يستجاب لذلك!» فهذه قراءة هذا الحرف وشرطه- والله ولي التوفيق. اهـ.
.قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب، فقال: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ}. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قرأ ابن كثير وحمزة {إِلا أَن تَكُونَ} بالتاء {مَيْتَةً} بالنصب على تقدير: إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة.وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء {مَيْتَةً} بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون {إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} أي إلا أن يكون المأكول ميتة، أو إلا أن يكون الموجود ميتة. اهـ.قال الفخر:لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي قال: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إليَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} أي على آكل يأكله، وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات.ثم ذكر أمورًا أربعة.أولها: الميتة، وثانيها: الدم المسفوح، وثالثها: لحم الخنزير فإنه رجس، ورابعها: الفسق وهو الذي أهل به لغير الله، فقوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول: إني لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.واعلم أن هذه السورة مكية، فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفورٌ رَحيم} [النحل: 115] وكلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة، فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضًا أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] وكلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر، فكلمة {إِنَّمَا} في الآية المدنية مطابقة لقوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إلا كذا وكذا في الآية المكية، ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.فإن قال قائل: فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات، ويلزم عليه أيضًا تحليل الخمر، وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها.قلنا: هذا لا يلزمنا من وجوه: الأول: أنه تعالى قال في هذه الآية: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجسًا، فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله، وإذا كان هذا مذكورًا في الآية كان السؤال ساقطًا.والثاني: أنه تعالى قال في آية أخرى: {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} [الأعراف: 157] وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث، والنجاسات خبائث، فوجب القول بتحريمها.الثالث: أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات، فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكًا بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية، فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات، وأما الخمر فالجواب عنه: أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله: {رِجْسٌ} وتحت قوله: {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} وأيضًا ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم في تحريمه، وبقوله تعالى: {فاجتنبوه} [المائدة: 90] وبقوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة.وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطحية، فالجواب عنه من وجوه: أولها: أنها ميتات فكانت داخلة تحت هذه الآية.وثانيها: أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية، وثالثها: أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية، وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية.فإن قال قائل: المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها؟أجابوا عنه من وجوه: أحدها: أن المعنى لا أجد محرمًا مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية، وثانيها: أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك.وثالثها: هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد.ورابعها: أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن، ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام.ولقائل أن يقول: هذه الأجوبة ضعيفة.أما الجواب الأول: فضعيف لوجوه:أحدها: لا يجوز أن يكون المراد من قوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته، ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} لما حسن استثناؤها، ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة، علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه.وثانيها: أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء، ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها، فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل، وثالثها: أنه تعالى قال في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} [البقرة: 173] وذكر هذه الأشياء الأربعة، وكلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر.وأما جوابهم الثاني: وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرمًا إلا هذه الأربعة.فجوابه من وجوه: أولها: أن قوله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة، وكلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء، وثانيها: أنه لما ثبت بمقضتى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الاْربعة كان هذا اعترافًا بحل ما سواها، فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخًا، ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ، لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلًا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان، فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتًا إلا أنه زال، ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ، وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال.وأما جوابهم الثالث: وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد.فنقول: ليس هذا من باب التخصيص، بل هو صريح النسخ، لأن قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة، وقوله في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} وكذا وكذا، تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة، لأن كلمة {إِنَّمَا} تفيد الحصر، فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعًا لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتًا في أول الشريعة بمكة، وفي آخرها بالمدينة، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.وأما جوابهم الرابع: فضعيف أيضًا، لأن قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيْكَ} يتناول كل ما كان وحيًا، سواء كان ذلك الوحي قرآنًا أو غيره، وأيضًا فقوله في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} يزيل هذا الاحتمال.فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام، وصحة هذا المذهب، وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله، ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرًا من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما استخبثه العرب فهو حرام» وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه، لما رآهم يأكلون الضب قال: «يعافه طبعي» ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببًا لتحريم الضب.وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئًا، وقد يختلفون في بعض الأشياء، فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون، فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط، بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم؟واعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء، فلا فائدة في الإعادة.فأولها: الميتة، ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد» وثانيها: الدم المسفوح، والسفح الصب يقال: سفح الدم سفحًا، وسفح هو سفوحًا إذا سال وأنشد أبو عبيدة لكثير:قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وعلى هذا التقدير: فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل، وسئل ابن مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم.وعن القدر: يرى فيها حمرة الدم، فقال لا بأس به، إنما نهي عن الدم المسفوح.وثالثها: لحم الخنزير فإنه رجس.ورابعها: قوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وهو منسوق على قوله: {إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} فسمى ما أهل لغير الله به فسقًا لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود إذا كان كاملًا فيهما، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].وأما قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة، بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم، وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة.وقوله عقيب ذلك: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يدل على حصول الرخصة. اهـ.
|